لا تُنكر الدعوة إلى تنفيذ العناية الواجبة بحقوق الإنسان في العمليات الإنسانية في شمال غرب سوريا التحديات الجسيمة التي تعيق تنفيذها. فالظروف في المنطقة بالغة التعقيد نتيجة النزاع المستمر. حيث تخضع المنطقة لسيطرة سلطات الأمر الواقع المختلفة، مقسمة بين هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري. وتظهر تقارير منتظمة عن انتهاكات لحقوق الإنسان التي ترتكبها هاتان المجموعتان. كما يُتَّهمان أيضاً بالسعي لسيطرة على تدفّق المساعدات الإنسانية والمشاريع الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرتهما.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع تركيا بنفوذ لا نظير له في المنطقة من خلال سياستها واقتصادها. إذ تتحكم الجارة الشمالية لسوريا في جميع المعابر الحدودية التي تسمح بتدفق البضائع والأفراد إلى شمال غرب سوريا، بما في ذلك العمليات الإنسانية. كما أنَّ الجيش التركي يتمركز داخل الأراضي السورية على طول خطوط المواجهة مع الحكومة السورية وحلفائها.
رغم انخفاض حِدّة الأعمال العدائية العسكرية في سوريا منذ عام 2020، لا تزال منطقة شمال غرب سوريا عُرضة للقصف الجوي والهجمات المدفعية من قبل الحكومة السورية وحلفائها الروس. وغالباً ما تكون الأهداف الرئيسية لهذه الحملات هي التجمعات السكانية المدنية أي الفئات المستهدفة من المساعدات الإنسانية. كما أنَّ المنظمات غير الحكومية الإنسانية، مثل الخوذ البيضاء، ومشاريعها كانت مستهدفة بانتظام من قِبل الحكومة وحلفائها.
علاوةّ على ذلك، تتأثر العمليات الإنسانية بالعوامل السياسية والاقتصادية العالمية، مثل الحروب في غزة وأوكرانيا إضافة إلى الأزمة الاقتصادية المرافقة لجائحة كوفيد 19، والتي أدت إلى تقليص التمويل المخصص للعمليات الإنسانية في المنطقة، وذلك رغم استمرار الحاجة الماسة إلى المساعدات الإنسانية.
إن الوضع الاستثنائي في شمال غرب سوريا تأثيراً مضاعفاً على أوضاع حقوق الإنسان. وينعكس ذلك في تحديات متداخلة ويمكن تلخيصها، وإن لم يكن بشكل شامل، على النحو التالي:
أوّلاً. التحديات على صعيد حقوق الإسكان والأراضي والممتلكات
- النزوح وغياب التوثيق: شهد شمال غرب سوريا نزوحاً، واسع النطاق بسبب النزاع، مما أدى إلى فقدان العديد من الأشخاص إمكانية الوصول إلى منازلهم وأراضيهم. أكد المجلس النرويجي للاجئين (NRC) أن حقوق السكن والأرض والممتلكات والوصول إلى الوثائق المدنية هي احتياجات حاسمة للنازحين داخليًا في شمال غرب سوريا، لأن غياب هذه الوثائق لا يعيق توزيع المساعدات فحسب، بل يؤثر أيضًا على قدرة الأفراد على العودة إلى منازلهم أو المطالبة بتعويضات عن الممتلكات المفقودة.
- مشاريع إسكان النازحين: يعيش العديد من النازحين في مستوطنات غير رسمية لا تحظى باعتراف قانوني ولا توفر لهم أي ضمانات حيازية. وقد تواجه العمليات الإنسانية تحديات قانونية تتعلق بكيفية تقديم المساعدة لهذه الفئات مِن دون أن تُعزّز، عن غير قصد، عمليات الاستحواذ غير القانونية أو غير العادلة أو الجائرة للأراضي. على مدار السنوات الماضية، قامت المنظمات غير الحكومية التركية ووكالات التنمية ببناء عشرات الآلاف من المساكن المصنوعة من الطوب في شمال غرب سوريا، وقد استفادت من جزء كبير من هذه الوحدات السكنية، التي تم بناؤها تحت ستار المساعدات الإنسانية، الفصائل العسكرية والنخب المحلية بدلاً من استفادة السكان المدنيين بشكل عام.
- إعادة الإعمار ونزاعات المِلكية: عندما تدعم المنظمات غير الحكومية الإنسانية مشاريع إعادة الإعمار أو مشاريع الإيواء، يجب عليها ضمان عدم المساهمة في الاستيلاء غير المشروع على الأراضي أو انتهاك حقوق النازحين في العودة إلى ديارهم.على سبيل المثال، اقترحت بعض التقارير أن بناء مشاريع سكنية في عفرين قد يكون ساهم في التغيير الديموغرافي القسري في المنطقة. تركز هذه التقارير بشكل خاص على دور بعض الجمعيات الخيرية في تمويل جهود إعادة الإعمار على أراضٍ في عفرين كانت مملوكة من قبل السكان الكرد النازحين، وفي هذا السياق، يجب أن تأخذ العناية الواجبة بحقوق الإنسان بعين الاعتبار نزاعات اللإسكان والأراضي والممتلكات بعناية لتجنُّب التورط في الاستيلاء غير المشروع على الممتلكات.
ثانياً. المخاطر البيئية
- تدهور الموارد الطبيعية: أدى النزاع المستمر إلى تدهور بيئيٍّ حاد في شمال غرب سوريا، بما في ذلك الاستغلال المفرط للموارد مثل المياه وإزالة الغابات للحصول على الحطب. وتواجه الجهات الفاعلة الإنسانية تحدياً يتمثل في ضمان أن أنشطتهم لا تساهم في الإضرار بالبيئة أثناء محاولتهم تلبية الاحتياجات العاجلة. على سبيل المثال، تقديم خدمات المياه والصرف الصحي، مع الحفاظ على توفير المياه، وحماية التربة، يمثِّل مهمة معقدة. ويُوفّر التطبيق الفعّال للعناية الواجبة بحقوق الإنسان الأدوات اللازمة للجهات الفاعلة في المجال الإنساني للتخفيف من هذه التحديات.
- إدارة النفايات: يمكن أن تنتج العمليات الإنسانية، لا سيما في المخيمات المكتظة بالسكان، كميات كبيرة من النفايات. وقد يؤدي سوء التخلص غير السليم من النفايات إلى تلوث التربة وإمدادات المياه، مما يزيد من المشكلات الصحية ويسهم في مزيد من التدهور البيئي. يتطلب التطبيق القعّال للعناية الواجبة بحقوق الإنسان دراسة دقيقة لتأثير العمليات الإنسانية على البيئة لتجنّب إلحاق ضرر طويل الأمد بالسكان.
- الهشاشة المناخية: يضيف تغيّر المناخ مستوى آخر من التعقيد للعمل الإنساني في شمال غرب سوريا، حيث يعيش الملايين من النازحين داخليًا في ظروف هشة. أصبحت منطقة شمال غرب سوريا أكثر عرضة للظواهر الجوية القاسية مثل الفيضانات والجفاف.التي تدمر الملاجئ المؤقتة، وتلوث مصادر المياه، وتعطل إمدادات الغذاء، وتضغط على الموارد الإنسانية المحدودة بالفعل. يقلل الجفاف من الإنتاجية الزراعية، مما يزيد من انعدام الأمن الغذائي، بينما تتسبب الفيضانات في تدمير البنية التحتية وتعرقل توصيل المساعدات. ويجب على الجهات الفاعلة الإنسانية دمج تقييمات المخاطر المناخية في تخطيطها من خلال اختيار مواقع مقاومة للفيضانات لإقامة المخيمات، وتحسين إدارة المياه، وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة. إن معالجة المخاطر المناخية أمر أساسي لكل من الاستجابة الفورية والمرونة على المدى الطويل، حيث يساعد في منع المزيد من التدهور البيئي وحماية الفئات السكانية الضعيفة من تفاقم الأزمات.
ثالثاً. القضايا الصحية
- نقص البِنى التحتيّة الطّبيّة: أدّت سنوات النّزاع إلى تدمير جزء كبير من البنية التحتيّة الطّبيّة في شمال غرب سوريا. كانت المستشفيات هدفاً رئيسياً ومستمراً للقصف الجوي، حيث تعرّضت للهجوم أكثر من 400 مرة حتى عام 2021. يفرض ضمان العناية الواجبة بحقوق الإنسان في هذا السياق ضرورة معالجة التأثيرات الصحية لتقديم المساعدات، لا سيما في بيئة تعاني فيها الخدمات الصحية من نقص حاد أو حتى معدومة. قد تؤدي العمليات الإنسانية، عن غير قصد، إلى زيادة الضغط على الموارد المحلية، مما يترك السكان دون إمكانية الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الأساسية.
- المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية: توفر الجهات الإنسانية المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي، لكن هذه الأنظمة غالباً ما تكون تحت ضغط شديد، مما يؤدي إلى تفشّي الأمراض المنقولة عبر المياه. يمكن أن تؤدي ممارسة النظافة والصرف الصحي غير الملائمة في المخيمات ومشاريع إسكان النازحين إلى تفاقم انتشار الأمراض مثل الكوليرا، مما يجعل العناية الواجبة بحقوق الإنسان ضرورية لضمان الامتثال للمعايير الصحية مِن دون التسبب في أضرار إضافية.
- الصحة النفسية: تسبب النزاع في انتشار واسع للصدمات النفسية ومشاكل الصحة النفسية، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والقلق والاكتئاب. غالباً ما تواجه الجهات الفاعلة في المجال الإنساني صعوبات في دمج خدمات الصحة النفسية في عملياتها، لكن العناية الواجبة بحقوق الإنسان تتطلب معالجة التأثيرات النفسية والاجتماعية لتوزيع المساعدات، وضمان أن تكون التدخلات مراعية لهذه التحديات المتعلقة بالصحة النفسية.
رابعاً. القيود التشغيلية والأمنية
- إمكانية الوصول والسلامة: يقيّد النزاع الدائر بِشدة وصول المساعدات الإنسانية إلى العديد من المناطق. وتحدُّ المخاوف الأمنية من قدرة الوكالات الإنسانية على إجراء تقييمات شاملة للآثار المحتملة لعملياتها على حقوق الإنسان.
- التنسيق والرقابة: إن تعقيد المشهد الذي يضم فاعلين متعددين، بما في ذلك الميليشيات المحلية والمنظمات غير الحكومية الدولية وسُلطات الأمر الواقع، يعقِّد تنفيذ نهجٍ منسق للعناية الواجبة بحقوق الإنسان. ويُشكّل ضمانُ احترام جميع الجهات الفاعلة لمعايير حقوق الإنسان تحدّياً، خاصة في ظل محدودية المساءلة والرقابة في مناطق النزاع مثل شمال غرب سوريا.
- قيود التمويل: يُشكّل نقص التمويل تحدّياً كبيراً أيضاً. إذ يتطلب تنفيذ العناية الواجبة بحقوق الإنسان موارد لمراقبة المخاطر وتقييمها والتخفيف من حدتها. ومع ذلك، تعاني العديد من العمليات الإنسانية في سوريا من نقص التمويل، مما يحدّ من قدرتها على إعطاء الأولوية لقضايا حقوق الإنسان، لا سيما في مجالات مثل حقوق الإسكان والأراضي والممتلكات، أو الاستدامة البيئية.
خامساً. التداعيات القانونية
- الجهات الفاعلة من غير الدول: يخضع شمال غرب سوريا لسيطرة جهات غير حكومية ذات رؤى مختلفة بشأن الحوكمة وحقوق الإنسان. وهذا يعقّد تنفيذ العناية الواجبة بحقوق الإنسان، إذ يجب على الوكالات الإنسانية أن تتعامل مع هذه الجماعات مع ضمان عدم التورط في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك التهجير القسري أو مصادرة الممتلكات.
- ديناميات السلطة المحلية: قد تسعى سلطات الأمر الواقع أو الفصائل العسكرية إلى استغلال العمليات الإنسانية لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية. وهذا يزيد من مخاطر التلاعب بالمساعدات أو تحويلها بطرق تؤدي إلى تهميش الفئات الضعيفة من السكان. تتطلب العناية الواجبة بحقوق الإنسان إجراء تحليل دقيق لتوزيع السلطة لضمان توزيع عادل للمساعدات وعدم تعزيز التمييز أو القمع.
[14] منظمة العفو الدولية، “سوريا 2023” (2023) متاح على<https://www.amnesty.org/en/location/middle-east-and-north-africa/middle-east/syria/report-syria/>
[15] هيومن رايتس ووتش، “كل شيء بقوة السلاح “: الانتهاكات والإفلات من العقاب في شمال سوريا الذي تحتله تركيا” (2024) متاح على<https://www.hrw.org/report/2024/02/29/everything-power-weapon/abuses-and-impunity-turkish-occupied-northern-syria> حول الظروف في الأراضي التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام: حماية الفضاء الإنساني، عبر الحدود: تنسيق الوصول في شمال غرب سوريا، ص 24، (2023)، متاح (باللغة الإنكليزية) على<https://www.protecthumanitarianspace.com/sites/default/files/2024-01/cross-border-access-coordination-in-north-west-syria_v2.pdf>
[16] مجموعة الأزمات، “سياسة تركيا في سوريا بعد فوز أردوغان” (2023)، متاح (بالإنكليزية) على<https://www.crisisgroup.org/europe-central-asia/east-mediterranean/turkiye-syria/turkiyes-syria-policy-after-erdogans-win>
[17] تُوثّق الشبكة السورية لحقوق الإنسان العدد اليومي للضحايا من المدنيين في سوريا. الشبكة السورية لحقوق الإنسان، العدد اليومي الجديد للضحايا، (2024)، متاح في<https://news.snhr.org/category/dailydeathtoll/> مثال على استهداف مخيمات النازحين أٌبلِغ عنه في آذار/مارس 2023 من قبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان. الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تحقيق: استخدم النظام السوري الذخائر العنقودية لاستهداف تجمّع مخيمات النازحين في شمال غرب مدينة إدلب، (آذار/ مارس 2023)، متاح على<https://snhr.org/blog/2023/03/21/investigation-the-syrian-regime-used-cluster-munitions-to-target-a-gathering-of-idps-camps-in-northwestern-idlib-city/>
[18] Alhurra، ‘بـ”جرائم إبادة”.. نظام الأسد “ينتقم” في شمال سوريا’ (تشرين الأول/ أكتوبر) متاح على<https://www.alhurra.com/syria/2023/10/09/بـجرائم-إبادة-نظام-الأسد-ينتقم-في-شمال-سوريا>
[19] Aljazeera، ‘شمال سوريا.. ما تأثير انخفاض الدعم الأممي على المنظمات الإنسانية والأهالي؟’ (كانون الثاني/ يناير 2024) متاح على <https://www.aljazeera.net/politics/2024/1/6/شمال-سوريا-ما-تأثير-انخفاض-الدعم>